استئناف القتال في غزة- تكتيك إسرائيلي فاشل أم عودة إلى الدبلوماسية؟

المؤلف: طلال صالح بنان09.30.2025
استئناف القتال في غزة- تكتيك إسرائيلي فاشل أم عودة إلى الدبلوماسية؟

الدبلوماسية، جوهرها، هي تسيير دفة الخلاف بين طرفين أو أكثر على الساحة الدولية بأساليب سلمية، بعيدة عن إراقة الدماء والعنف. لكن، لا يمكن اعتبار هذا الأمر قاعدة مُحكمة لا يشوبها استثناء. ففي بعض الأحيان، تُمارَس الدبلوماسية وسط أزيز الرصاص ودويّ المدافع، عندما يختار أحد أطراف النزاع، أو كلاهما، رفع مستوى العنف، بما يتجاوز قدرة الدبلوماسية على تحقيق الأهداف المنشودة. تزداد احتمالات اللجوء إلى الخيار العسكري والتخلي عن الدبلوماسية، إذا ما اعتقد أحد الطرفين أو كلاهما بقدرة وسائل الردع التي يمتلكونها على حسم المعركة، أو على الأقل، التمهيد لجولة أخرى من المفاوضات الدبلوماسية، تفضي إلى هدنة طويلة الأمد أو مؤقتة، تتيح للدبلوماسية إثبات فعاليتها، إما لتهدئة الأوضاع المتوترة بين الطرفين، أو لاستئناف القتال بهدف تحسين المواقع التفاوضية.

في يوم الثلاثاء المنصرم (18 مارس 2025)، تفاجأ الجميع، وخاصة سكان غزة، بغارات جوية إسرائيلية شنّتها مئة طائرة حربية، بينما كان الغزاويون يتناولون وجبة السحور، قبل أذان الفجر، في استعراض صارخ للغطرسة والإجرام المتفاقم. أسفرت هذه الغارات الجوية المباغتة عن استشهاد ما يزيد عن 430 فلسطينياً، بحلول نهاية اليوم التالي، نتيجة لخرق إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار. لم يتوقع أحد أن يصمد هذا الاتفاق حتى انتهاء مراحله الثلاث، وخاصة الفلسطينيين في غزة، حيث بدأت بوادر تنصل الإسرائيليين من الاتفاق تظهر بمجرد إتمام تبادل الأسرى بين الجانبين، من خلال إعادة فرض الحصار الخانق على غزة، عبر وقف المساعدات الحيوية وقطع إمدادات الكهرباء والماء، بهدف تجويع الفلسطينيين وتعطيشهم، ودفعهم قسراً إلى مغادرة القطاع، في جريمة تطهير عرقي ممنهجة، لإخراج شعب من أرضه في أبشع صورة في التاريخ الحديث.

إسرائيل، بانتهاكها الصارخ لاتفاق وقف إطلاق النار والاكتفاء بالمرحلة الأولى منه، تعود لتطالب بالإفراج الفوري عن جميع أسراها، الأحياء والأموات، دفعة واحدة، دون تقديم أي ضمانات أمنية للفلسطينيين في غزة. ويبدو أن لسان حال حكومة بنيامين نتنياهو يقول بوضوح: أعيدوا إلينا أسرانا، وبعد ذلك سنستأنف الحرب ضدكم، وسنواصل حملة الإبادة الجماعية ضدكم دون هوادة.

إسرائيل صوّرت استئناف القتال على أنه "تكتيك" جديد لاستئناف المفاوضات تحت وابل القصف المدفعي والجوي والبحري، بدلاً من استئنافها في هدوء. "تكتيك" تفاوضي مستحدث، مدعوم بدعم أمريكي مطلق، يصل إلى حد تحريض نتنياهو على التمادي في القتل وعدم المبالاة بأي شيء، واتخاذ القرارات التي يراها مناسبة، دون الرجوع إلى واشنطن أو التشاور معها!

هذا الدعم السياسي والعسكري اللامحدود الذي تتلقاه حكومة نتنياهو من واشنطن، يدفعها نحو قمة التعنت والغطرسة، لتحقيق الأهداف التي عجز ساسة وجنرالات إسرائيل عن تحقيقها في جولة القتال الأولى، حتى يتم إخراج سكان غزة من القطاع طوعاً، أو إبادتهم عن بكرة أبيهم. إضافة إلى ذلك، هناك هدف استراتيجي كبير وهو: استعادة إسرائيل لقوة الردع في مواجهة أي قوة بالمنطقة، خاصة بعد رفض الدول العربية لمشروع تهجير الفلسطينيين، بهدف تحويل القطاع إلى "ريفيرا" شرق أوسطية.

ترى الحكومة الإسرائيلية أن التفاوض تحت القصف المدفعي والجوي والبحري من شأنه أن يقلل، حسب زعمهم، من تشدد الفريق التفاوضي التابع للمقاومة في الدوحة، ويسرّع من استعادة أسراهم وجثث قتلاهم، ويمنع أي اتصال مباشر بين واشنطن والمقاومة، لإبرام صفقات ثنائية لاستعادة الأسرى الأمريكيين المحتجزين لدى المقاومة.

أسلوب التفاوض تحت القصف، في كل الأحوال، لا يعني أن إسرائيل في هذه المرحلة واثقة من تحقيق أهدافها من الحرب، فضلًا عن القول إنها واثقة من قدرتها على حسم الحرب والقضاء على المقاومة. وإلا كانت قد اختارت وقف عملية التفاوض، أساساً، وتركت للحرب مهمة حسم الصراع، مرة واحدة وإلى الأبد. نقطة مهمة في إدارة الجانب الإسرائيلي لهذه الجولة الثانية من الصراع، تعكس قلقاً حقيقياً لدى الساسة والعسكريين في إسرائيل، من احتمال فشل الجولة الجديدة من القتال. ما يؤكد هذا التفسير لسلوك إسرائيل هو إسقاطها من حساباتها إعادة احتلال غزة، عندما وصفت عملية التوغل البري الجديدة في غزة بأنها عملية برية محدودة!

على أي حال، فإن "تكتيك" التفاوض تحت القصف لن يجدي نفعاً من الناحية الاستراتيجية لجنرالات إسرائيل وساستها، بل إن نتائجه العكسية قد تكون وخيمة على إسرائيل، على الصعيدين الداخلي والخارجي. لن يتوقف أهالي الأسرى عن المطالبة بعودة أبنائهم الأسرى، وهذا رد فعل من شأنه إضعاف حكومة نتنياهو المتطرفة، إن لم يقوضها بالكامل. كما أن العالم لن يقبل المزيد من ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب ضد الفلسطينيين، وهو ما لا تستطيع تل أبيب ولا واشنطن مواجهته. وليست إسرائيل تنسى، كما أعلنت الكثير من الدول العربية، تطوير أي شكل من أشكال التطبيع، وربما تخسر إسرائيل حالة السلام البارد (الحالية) مع الدول العربية التي أبرمت معها اتفاقات سلام.

قريباً ستدرك إسرائيل أنها عاجزة عن تحقيق أهدافها من خلال الحرب، وأنه عليها أن تعود إلى مسار الدبلوماسية، علّها تخفف من تكلفة استمرار وضعية الصراع العنيف مع الفلسطينيين، وأن تتحلى بتواضع أكبر في تقدير إمكانات الردع التي تمتلكها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة